الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (36- 38): {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}قوله عز وجل: {فأزلهما الشيطان} أي استزل آدم وحواء ودعاهما إلى الزلة وهي الخطيئة، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على عصمة الأنبياء والجواب عما صدر عند قوله عز وجل: {وعصى آدم ربه فغوى} في سورة طه {عنها} أي الجنة {فأخرجهما مما كان فيه} يعني من النعيم وذلك أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم وحواء فمنعه الخزنة فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزّان الجنة فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون. وقيل إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منهما، وكان إبليس بقرب الباب فوسوس لهما وذلك أن آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من نعيم قال لو أن خلداً فاغتنم ذلك الشيطان منه وأتاه من قبل الخلد. وقيل لما دخل الجنة وقف على آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحه أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا ما يبكيك قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاها بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم فأكل منها. قال إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً، فقال ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش فيها إلاّ نكداً فاهبط من الجنة وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وزرع وسقى حتى إذا بلغ واشتد حصده ثم درسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه وخبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه الجهد وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهى عنها قال الله تعالى: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رب زينته لي حواء قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلاّ كرهاً ولا تضع إلاّ كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك. والرنة الصوت، فلما أكلا من الشجرة تهافتت عنهما ثيابهما، وأخرجا من الجنة، فذلك قوله عز وجل: {وقلنا اهبطوا} أي انزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالإبلة من أعمال البصرة والحية بأصبهان {بعضكم لبعض عدو} يعني العداوة التبي بين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس وإليه الإشارة بقوله عز وجل:{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} والعداوة التي بين ذرية آدم والحية. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالماهن منذ حاربناهن» أخرجه أبو داود، وله عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف من ثأرهن فليس مني» وفي رواية «اقتلوا الكبار كلها إلاّ الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة».(م) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة جنّاً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» وفي رواية «إن بهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئاً فاخرجواعليه ثلاثاً فإن ذهب إلاّ فاقتلوه فإنه كافر» {ولكم في الأرض مستقر} أي موضع قرار {ومتاع} أي بلغة ومستمتع {إلى حين} أي إلى وقت انقضاء آجالكم. قوله عز وجل: {فتلقى آدم} أي فتلقن، والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم. وقيل هو التعلم {من ربه كلمات} أي كانت سبب توبته. وقيل إن تلك الكلمات هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقيل هي لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفس فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل قال آدم: يا رب أرأيت ما أتيت أشي ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته عليّ قبل أن تخلقني؟ بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك. قال: يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي. وقيل: إن الله تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه فطاف بالبيت سبعاً وهو يومئذٍ ربوة حمراء ثم صلّى ركعتين ثم استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنوبك. وقيل: إن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى. وقيل هي ثلاثة أشياء: الحياء والدعاء والبكاء. قال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً. وقيل: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم اكثر حين أصاب الخطيئة لو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة {فتاب عليه} أي فتجاوز عنه وغفر له.وأصل التوبة من تاب يتوب إذا رجع فكأن التائب رجع عن ذلك الذنب الذي كان عليه، ولا تتحقق التوبة منه إلاّ بثلاثة أمور. علم وحال وعمل. أما العلم فهو أن يعلم العبد ضرر الذنب وأنه حجاب عن الله تعالى، فإذا حصل هذا العلم تألم القلب فعند ذلك يحصل الندم وهو الحال فيترك العبد الذنب، وبعزم في المستقبل أن لا يعود إليه وهو العمل فإذا تحققت هذه الثلاثة الأمور وحصلت التوبة، وسيأتي بسط هذا عند قوله تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحاً} في سورة التحريم إن شاء الله تعالى {إنه هو التواب} أي الرجاع على عباده بقبول التوبة. والتواب في وصف الله سبحانه وتعالى: المبالغ في قبول توبة عباده {الرحيم} أي بخلقه وصف سبحانه وتعالى نفسه مع كونه بأنه رحيم {قلنا اهبطوا منها جميعاً} يعني هؤلاء الأربعة. وقيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض، وفيه ضعف لأنه قال في الهبوط الأول {ولكم في الأرض مستقر} فدل على أنه كان من الجنة إلى الأرض، والأصح أنه للتأكيد {فإمَّا يأتينكم مني هدى} فيه تنبيه على عظم نعم الله على آدم وحواء كأنه قال وإن أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بهدايتي التي تؤديكم إلى الجنة مرة أخرى على الدوام الذي لا ينقطع وقيل المخاطب هم ذرية آدم يعني يا ذرية آدم إما يأتينكم مني رشد وبيان وشريعة وقيل كتاب ورسول {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم} يعني فيما يستقبلهم {ولا هم يحزنون} أي على ما خلفوا وقيل لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة..تفسير الآيات (39- 44): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}{والذين كفروا} أي جحدوا {وكذبوا بآياتنا} أي بالقرآن {أولئك أصحاب النار} أي يوم القيامة {هم فيها خالدون} أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها قوله عز وجل: {يا بني إسرائيل} اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلّى الله عليهم وسلم أجمعين ومعنى إسرائيل عبد الله وقيل صفوة الله والمعنى يا أولاد يعقوب {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي اشكروا نعمتي وإنما عبر عنه بالذكر لأن من ذكر النعمة فقد شكرها ومن جحدها فقد كفرها وقيل الذكر يكون بالقلب ويكون اللسان ووحد النعمة لأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومعناه أن المضرة المحضة لا تكون نعمة ولو فعل الإنسان منفعة وقصد نفسه بها لا تسمى نعمة إذا لم يقصد بها الغير ثم إن النعم ثلاثة: نعمة تفرد بها الله تعالى وهي إيجاد الإنسان ورزقه ونعمة وصلت إلى الإنسان بواسطة الغير لكن الله مكنه من ذلك فالمنعم بها في الحقيقة هو الله تعالى ونعمة حصلت للإنسان بسبب الطاعة وهي أيضاً من الله تعالى، فالله هو المنعم المطلق في الحقيقة لأن أصول النعم كلها منه. وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله: {اذكروا نعمتي} لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم كلها منه. وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله: {اذكروا نعمتي} لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم أن الله تعالى أنقذهم من فرعون وفلق البحر لهم وأغرق فرعون وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم وإنزال التوراة ونعم غير هذه كثيرة فإن قلت إذا فسر النعمة بهذا فما كانت على المخاطبين بها بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعمة عليهم حتى يذكروها. قلت إنما ذكر المخاطبين بها لأن فخر الآباء الأبناء ولأن الأبناء إذا اتيقنوا أن الله قد أنعم على آبائهم بهذه النعم فقد وجب عليهم ذكرها وشكرها. وقيل أن هذه النعم هي إدراك المخاطبين بها زمن محمد صلى الله عليه وسلم وذكرها الإيمان به {وأوفوا بعهدي} أي امتثلوا أمري {أوف بعهدكم} أي بالقول والثواب وأصل للعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال ومنه سمي الموثق الذي تلزم مراعاته عهداً وقيل أراد بالعهد جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكليف دون بعض وقيل أراد به ما ذكر في سورة المائدة وهو قوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} إلى قوله: {لأكفرن عنكم سيئاتكم} فهذا قوله: {أوف بعهدكم} وقيل هو قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} يعني شريعة التوراة. وقيل: هو قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبد ون إلاّ الله} وقيل أراد بهذا العهد ما أثبته في كتب الأنبياء المتقدمة من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث في آخر الزمان، وذلك أن الله عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة السلام أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق النور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، وهو قوله:{وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته {وإياي فارهبون} أي فخافون في نقضكم العهد {وآمنوا بما أنزلت} يعني بالقرآن {مصدقاً لما معكم} يعني أن القرآن موافق لما في التوراة من التوحيد والنبوة والأخبار ونعمت النبي صلى الله عليه وسلم فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تصديق للتوراة لأن التوراة فيها الإشارة إلى نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث فمن آمن به فقد آمن بما في التوراة ومن كذبه وكفر به فقد كذب التوراة وكفر بها {ولا تكونوا أول كافر به} الخطاب لليهود، نزلت في كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود، والمعنى ولا تكونوا يا معشر اليهود أول من كفر به. فإن قلت كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم؟ قلت: هذا تعريض لهم والمعنى كان يجب أن تكونوا أول من آمن به لأنكم تعرفون صفته ونعته بخلاف غيركم وكنتم تستفتحون به على الكفار فلما بعث كان أمر اليهود بالعكس. وقيل معناه ولا تكونوا أول كافر به من اليهود فيتبعكم غيركم على ذلك فتبوءوا بإثمكم وإثم غيركم ممن تبعكم على ذلك {ولا تشتروا} أي ولا تستبدلوا {بآياتي} أي ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في التوراة {ثمناً قليلاً} أي عوضاً يسيراً من الدنيا لأن الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالشي اليسير الحقير الذي لا قيمة له والذي كانوا يأخذونه من الدنيا كالشيء اليسير بالنسبة إلى جميعها فهو قليل القليل فلهذا قال الله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} وذلك أن كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئاً معلوماً من زرعهم وثمارهم ونقودهم وضروعهم فخافوا إن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه واختاروا الدنيا على الآخرة وأصروا على الكفر {وإياي فاتقون} أي فخافون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. والتقوى قريب من معنى الرهبة والفرق بينهما أن الرهبة خوف مع حزن واضطراب والتقوى جعل النفس في وقاية مما تخاف. قوله عز وجل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم.وقيل معناه ولا تخلطوا الحق الذي أنزل عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة الباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وقيل لا تخلطوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي الحق بالباطل أي بصفة الدجال وذلك أنه أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده اليهود وقالوا ليس هو الذي ننتظره وإنما هو المسيح ابن داود يعني الدجال وكذبوا فيما قالوا: {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل. وفيه تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار هذا الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق لما فيه من الضرر والفساد وفيه دلائل أيضاً على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه {وأقيموا الصلاة} يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها وجميع أركانها {وآتوا الزكاة} أي أدوا الزكاة المفروضة عليكم في أموالكم {واركعوا مع الراكعين} أي صلوا مع المصلين، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعبر عن الصلاة بالركوع لأنه ركن من أركانها وهذا خطاب لليهود لأن صلاتهم ليس فيها ركوع فكأنه قال لهم صلوا صلاة ذات ركوع فلهذا المعنى أعاده بعد قوله وأقيموا الصلاة لأن الأول خطاب الكافة والثاني خطاب قوم مخصوصين وهم اليهود. وفيه حث على إقامة الصلاة في الجماعة فكأنه قال صلوا مع المصلين في الجماعة. قوله عز وجل: {أتأمرون الناس بالبر} الاستفهام فيه للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم. والبر اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات، نزلت هذه الآية في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلىلله عليه وسلم اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق وقيل إن جماعة من اليهود قالوا لمشركي العرب: إن رسولاً سيظهر منكم ويدعوكم إلى الحق، وكانوا يرغبونهم وفي اتباعه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله ووبخهم بذلك حيث إنهم كانوا يأمرون الناس باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوه عنه. وقيل كانوا يأمرون الناس بالطاعة والصلاة والزكاة وأنواع البر ولا يفعلونه فوبخهم الله بذلك {وتنسون أنفسكم} أي وتعدلون عما لها فيه نفع والنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والمعنى أتتركون أنفسكم ولا تتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم {وأنتم تتلون الكتاب} يعني تقرؤون التوراة وتدرسونها وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وفيها أيضاً الحث على الأفعال الحسنة والإعراض عن الأفعال القبيحة والإثم {أفلا تعقلون} يعني أنه حق فتتبعونه والعقل قوة يهيئ قبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ومنه قول علي بن أبي طالب:وأصل العقل الإمساك لأنه مأخوذ من عقال الدابة كعقل بالعقال ليمنعه من الشرود فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود والأفعال القبيحة. ومعنى الآية أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك لأن الإنسان إذا وعظ غيره ولم يتعظ هو فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون وقيل إن من وعظ الناس يجتهد أن ينفذ موعظته إلى القلوب فإذا خالف قوله فعله كان ذلك سبب تنفير القلوب عن قبول موعظته.(ق) عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» قوله فتندلق، أي تخرج أقتاب بطنه أي أمعاء بطنه واحدها قتب وروى البغوي بسنده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون قيل مثل الذي يعلم الناس والخير ولا يعمل به كالسراج يضي للناس ويحرق نفسه» وقيل من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بعفله نفذت سهامه، وقال بعضهم:
|